سورة العنكبوت - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (العنكبوت)


        


تقدم القوم في القرآن في {أئنكم}، واختلف الناس في قطع السبيل المشار إليه ها هنا، فقالت فرقة: كان قطع الطريق بالسلب فاشياً فيهم، وقال ابن زيد: كانوا يقطعون الطرق على الناس لطلب الفاحشة فكانوا يخيفون، وقالت فرقة: بل أراد قطع سبيل النسل في ترك النساء وإتيان الرجال، وقالت فرقة: أراد أنهم لقبح الأحدوثة عنهم يقطعون سبل الناس عن قصدهم في التجارات وغيرها، والنادي المجلس الذي يجتمع فيه الناس وهو اسم جنس لأن الأندية في المدن كثيرة فكأنه قال وتأتون في اجتماعكم حيث اجتمعتم.
واختلف الناس في {المنكر}، فقالت فرقة كانوا يحذفون الناس بالحصباء ويستخفون بالغريب والخاطر عليهم وروته أم هاني عن النبي صلى الله عليه وسلم وكانت حلقهم مهملة لا يربطهم دين ولا مروءة، وقال مجاهد ومنصور: كانوا يأتون الرجال في مجالسهم وبعضهم يرى بعضاً، وقال القاسم بن محمد: منكرهم أنهم كانوا يتفاعلون في مجالسهم، ذكره الزهراوي، وقال ابن عباس كانوا يتضارطون ويتصافعون في مجالسهم، وقال مجاهد أيضاً: كان أمرهم لعب الحمام وتطريف الأصابع بالحناء والصفير والحذف ونبذ الحياء في جميع أمورهم وقد توجد هذه الأمور في بعض عصاة أمة محمد صلى الله عليه وسلم فالتناهي واجب، فلما وقفهم لوط على هذه القبائح رجعوا إلى التكذيب واللجاج فقالوا {ائتنا} بالعذاب، أي أن ذلك لا يكون ولا تقدر عليه، وهم لم يقولوا هذا إلا وهم مصممون على اعتقاد كذبه، وليس يصح في الفطرة أن يكون معاند يقول هذا، ثم استنصر لوط عليه السلام ربه عليهم، فبعث ملائكة لعذابهم ورجمهم بالحاصب فجاؤوا إبراهيم أولاً مبشرين بإسحاق ومبشرين بنصرة لوط على قومه، وكان لقاؤهم لإبراهيم على الصورة التي بنيت في غير هذه الآية، فلفظة البشرى في هذه الآية تتضمن أمر إسحاق ونصرة لوط، ولما أخبره بإهلاك القرية على ظلمهم أشفق إبراهيم على لوط فعارضهم بأمره حسبما يأتي.


روي عن ابن عباس أن إبراهيم عليه السلام لما علم من قبل الملائكة أن قرية لوط تعذب أشفق على المؤمنين فجادل الملائكة وقال لهم: أرأيتم إن كان فيهم مائة بيت من المؤمنين أتتركونهم، قالوا ليس فيهم ذلك، فجعل ينحدر حتى انتهى إلى عشرة أبيات، فقال له الملائكة ليس فيهم عشرة ولا خمسة ولا ثلاثة ولا اثنان، فحينئذ قال إبراهيم {إن فيها لوطاً} فراجعوه حينئذ بأنا {نحن أعلم بمن فيها} أي لا تخف أن يقع حيف على مؤمن، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر {لننَجّينّه} بفتح النون الوسطى وشد الجيم و{منَجّوك} بفتح النون وشد الجيم.
وقرأ حمزة والكسائي {لننْجينه} بسكون النون وتخفيف الجيم، {ومنْجوك}، بسكون النون وتخفيف الجيم، وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر {لننجّيه} بالتشديد و{ومنجوك} بالتخفيف، وقرأت فرقة {لننجينْه} بسكون النون الأخيرة من الكلمة وهذا إنما يجيء على أنه خفف النون المشددة وهو يريدها، وامرأة لوط هذه كانت كافرة تعين عليه وتنبه على أضيافه، والغابر الباقي ومعناه {من الغابرين} في العذاب، وقالت فرقة {من الغابرين} أي ممن عمر وبقي من الناس وعسا في كفره، والضمير في {بهم} في الموضعين عائد على الأضياف الرسل، وذلك من تخوفه لقومه عليهم فلما أخبروه بما هم فيه فرج عنه، وقرأ عامة القراء {سِيء} بكسر السين، وقرأ عيسى وطلحة بضمها، والرجز، العذاب، وقوله: {بما كانوا يفسقون}، أي عذابهم بسبب فسقهم، وكذلك كل أمة عذبها الله، فإنما عذبها على الفسوق والمعصية لكن بأن يقترن ذلك بالكفر الذي يوجب عذاب الآخرة، وقرأ أبو حيوة والأعمش {يفسِقون} بكسر السين، وقوله تعالى: {ولقد تركنا منها} أي من خبرها وما بقي من أثرها، ف من لابتداء الغاية ويصح أن تكون للتبعيض على أن يريد ما ترك من بقايا بناء القرية ومنظرها، والآية موضع العبرة وعلامة القدرة ومزدجر النفوس عن الوقوع في سخط الله تعالى، وقرأ جمهور القراء {منِزلون} بتخفيف الزاي، وقرأ ابن عامر {منزِّلون} بشد الزاء وهي قراءة الحسن وعاصم بخلاف عنهما، وقرء الأعمش {إنا مرسلون} بدل {منزلون}، وقرأ ابن محيصن {رُجزاً} بضم الراء.


نصب {شعيباً} بفعل مضمر يحسن مع إلى تقديره بعثنا أو أرسلنا، فأمر شعيب بعبادة الله تعالى والإيمان بالبعث واليوم الآخر ومع الإيمان به يصح رجاؤه، وذهب أبو عبيدة إلى أن المعنى وخافوا، و{تعثوا}، معناه تفسدون، يقال عثا يعثوا وعث يعث وعاث يعيث وعثى يعثي إذا فسد، وأهل {مدين} قوم شعيب هذا على أنها اسم البلدة، وقيل {مدين} اسم القبيلة وأصحاب الأيكة وغيرهم، وقيل هم بعضهم ومنهم وذلك أن معصيتهم في أمر الموازين والمكاييل كانت واحدة.
و {الرجفة} ميد الأرض بهم وزلزلتها عليهم وتداعيها بهم وذلك نحو من الخسف، ومنه الإرجاف بالاخبار، والجثوم في هذا الموضع تشبيه، أي كان همودهم على الأرض كالجثوم الذي هو للطائر والحيوان، ومنه قول لبيد: [الكامل]
فغدوت في غلس الظلام وطيره *** غلب على خضل العضاة جثوم
وقوله {وعاداً} منصوب بفعل مضمر تقديره واذكر عاداً، وقيل هو معطوف على الضمير في قوله {فأخذتهم}، وقال الكسائي هو معطوف على قوله {ولقد فتنا الذين من قبلهم} [العنكبوت: 3]، وقرأ، {وثموداً} عاصم وأبو عمرو وابن وثاب، وقرأ {وثمود} بغير تنوين أبو جعفر وشيبة الحسن، وقرأ ابن وثاب {وعادٍ وثمودٍ} بالخفض والتنوين، ثم دل عز وجل على ما يعطي العبرة في بقايا {مساكنهم} ورسوم منازلهم ودثور آثارهم، وقرأ الأعمش {تبين لكم مَساكنهم} دون من، وقوله تعالى: {وزين لهم} عطف جملة من الكلام على جملة، و{السبيل}، هي طريق الإيمان بالله ورسله، ومنهج النجاة من النار، وقوله، {مستبصرين}، قال ابن عباس ومجاهد والضحاك معناه لهم بصيرة في كفرهم، وإعجاب به وإصرار عليه فذمهم بذلك، وقيل لهم بصيرة في أن الرسالة والآيات حق لكنهم كانوا مع ذلك يكفرون عناداً ويردهم الضلال إلى مجاهله ومتالفه، فيجري هذا مجرى قوله تعالى في غيرهم {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} [النمل: 14]، وتزيين الشيطان هو بالوسواس ومناجاة ضمائر الناس، وتزيين الله تعالى الشيء هو بالاختراع وخلق محبته والتلبس به في نفس العبد.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8